عمار السامر
عندما اكتب عن سر خلود العراق والعراقيين كنت اعلم تماما بأن اية تحولات تاريخية في العراق لا يمكنها ان تتم بهدوء وسلام ، ولا يمكنها ان تجري بشفافية ووئام ليس بسبب تناقضات طبيعة المجتمع العراقي، ولكن لأن القيم عندما تفتقد في مجتمع صعب كالعراق لا يمكنها ان تعود اليه بسهولة ..
وان الانقلابات العسكرية والمصاعب السياسية والاختلاطات الاجتماعية والتحديات الثقافية والانغلاقات الحضارية والممارسات الدكتاتورية والحصارات الاقتصادية والحروب الدموية التي مرت على العراقيين منذ نصف قرن تقريبا جعلتهم يختلفون تماما عما كانوا عليه ..
وانهم بحاجة الى زمن ليس بالقصير حتى يستعيدوا وعيهم ويبدلوا ممارساتهم ويتخلوا عن افكارهم ويتجردوا عن النزاعات ويتركوا كل ترسبات ماضيهم وبقاياه المظلمة علما بأن العراق اليوم يمر بنفس المأزق الذي تمر به بقية مجتمعات المنطقة اذ انه يمر بمرحلة تخلخل السياسي ولكن بطرق مختلفة لا يمكننا ان نجدها في غيره من المجتمعات بسبب النزاعات الطائفية والتقاليد البالية المترسخة في الضمائر العراقية اجتماعيا .. ولما طفت على السطح عندما وجدنا السياسيين وتجمعوا بأحزاب وقوى وتكتلات وجماعات وهيئات وتحالفات سياسية فقد خلقت تباينات مخيفة تفجرت اثرها مباشرة تصادمات دموية انتهت الى بشاعات لا يمكن تخيلها واصبح ضحيتها الاولى الشعب العراقي ان الفوضى التي تضرب اطنابها في اصقاع مهمة جدا من العراق لا يمكن تفسيرها انها حالة وطنية غريبة جدا بأي شكل من الاشكال .. بل انها حالة تمزق اجتماعي بسبب الاجندة الخارجية والطائفية التي رفعت مباشرة بعد سقوط نظام صدام. ان مصطلح " التكوينات " الطائفية قد انتقلت من تنوع اجتماعي كان يعيش في الخفاء الى صراع سياسي بدأ يطفح على السطح بشراسة منقطعة النظير من هذا الطرف او ذاك للصراع على السلطة او لجعله اداة للتناحر الاجتماعي والانقسام السياسي ان الافكار ينبغي ان تبقى متسامية عن كل الاحوال هذا الواقع الذي لا تصلحه الا اساليب سياسية وفكرية كما هو عليه حال العالم اليوم في كل الدول العربية .
انني اعتقد اننا لا نزال نعيش اوهام الماضي واننا قد فقدنا ذاكرتنا التاريخية ايضا .. واننا قادرون على مواجهة التحديات الشرسة بالأوهام والخرافات واستعراض العضلات سواء في البرلمان ام في دوائر والوزارات خصوصا اذا ما تضمن هذا الخطاب السياسي الذي يعلنه هذا المسؤول ام ذاك من الطائفيين ام غير الطائفيين! وخصوصا اذا ما كان بضاعة يروجها بعض القادة الجدد من الطائفيين في البرلمان او على شاشات التلفزيون او في الصحف ومواقع الانترنيت .. ونقنع انفسنا بأن التحديات السياسية والحضارية التي تواجهنا سنتغلب عليها من دون أي اسلحة ومن دون أي فكر ومن دون أي تخطيط!! لم نزل نتوهم اننا سادة هذا العالم وان الدنيا قد فقدت توازنها وانها ضعيفة واننا اقوياء .. لم نزل نعيش بأوهام واخيلة لا تتسق والواقع المرير الذي يثوي مجتمعنا في اردأ انواع التخلف وافكار العصور الوسطى ! ولم ندرك حتى اليوم ما الذي يمكن لنا ان نفعله في اللحظة التاريخية الحاسمة .. وان المجتمعات تنتهز الفرص الثمينة لتجديد تفكيرها واستعادة وعيها وتخصيب حياتها بكل ما هو حديث ونوعي ومتجدد دائما.
ان الناس اما ان تنعم بغبائها او ان تشقى بوعيها وان التجديدات لا يحس بها الا من يكابدها .. ولا يمكننا تخيل هؤلاء الذين اخطأ القدر وجعلهم يقودون مجتمعات ويسيرون دول انهم قوة جبارة خارقة في هذا الكون اذ يعتقدون ان السماء قد اختارتهم لهذه المناصب فيصدقون هذه الكذبة ويصبحون كالأصنام المنصوبة في معابد مظلمة يطلبون من الناس عبادتهم بالتصفيق لهم والتمسح بهم وترديد ما يثرثرون به من السياسات والشعارات وفضفاض الكلام .. ومن مخالفات القدر ان يغدو العراق بأيدي احزاب الطائفية الا انها لا تضم يا للأسف الشديد قادة اذكياء ولا اناس تعرف فن الحكم ولا ساسة تعشقها الجماهير من نوع قدير.
نعم، ان الانحدار الحضاري والثقافي قد بدأ في حياتنا العراقية منذ زمن بعيد وقد تساوق مع الانحدار السياسي والفكري وبدل ان نجد تطورا وتجديدا في حياتنا منذ اكثر من اربعين سنة وجدنا نكوصا بالغ الخطورة وصل اليوم الى درجة تثمين الخزعبلات والتقاليد البالية وانعدمت الحريات الشخصية ، بحيث بات الانسان يخشى أي فعل يخرج من ربقة تلك التقاليد وتأتي الخشية من كون تسويق التهديدات كلها تنطلق باسم الوطنية ان الانحدار السياسي لا يتمثل فقط بالقتل والخطف والذبح والتعذيب بل انها الاساليب السياسية والاجتماعية التي مارسها تسلط الدولة سابقا وتسلط المجتمع اليوم وتسويق كل عفنتها على العالم متى يتخلص العراقيون من الوهم والاساطير ؟ متى يتخلصون من تأليه الماضي الذين يقتاتون عليه صباح مساء؟ متى يتخلصون من الاحقاد والكراهية في ما بينهم ؟ انهم لا يجتمعون على كلمة سواء ! لابد ان نعيد التفكير في مسببات هذا الواقع الذي ابتلينا به قبل ان نجلس ونندب ونبكي ونلطم على نتائجه الكارثية من دون ان نقدم علاجات ميدانية على الارض لابد ان نعيد التفكير بأن العراق الجديد لا يحتمل ترسيخ الطائفية السياسية التي خلقت وبسرعة شديدة الطائفية الاجتماعية في العراق فتجذرت الانقسامات وانتجت البشاعات في بلادنا الجميلة وعند الناس العراقيين الطيبين وغدونا فرجة للعالم.
ان بناء العراق بعد حطامه ليس نزهة عابرة لقطاعات بناء واستثمارات وشركات ، بل هو عملية معقدة لتغيير تفكير البشر! فالأمور لا تقاس بالأمنيات والرغبات والنفاق باللعب على مسميات التجديد والتقدم ، بل تقاس بالخطط وصناعة العمليات بدقة متناهية وان تكون لنا القدرة على ان نقدم للعالم ما ينتظره منا، بل وان الضرورة باتت ماسة الى كيفية ان يستمع احدنا الى الاخر من دون قتله او تكفيره ولا تهميشه ولا اقصائه بل وحتى الاستهزاء به، فالعراق لا يستحق كل هذا من اهله العراقيين فهل باستطاعتنا ان نحيا من جديد وان نقنع انفسنا بما نجمع عليه وبإرادة عراقية واحدة ام لا نستطيع وليكن معلوما بأن رصيدنا في العالم اصبح صفرا على الشمال اسمحوا لي ان اقول بان العالم اصبح يتصورنا وحوشا ضارية وذئابا مسعورة، بعد ان كان يعتقد اعتقادا راسخا اننا نخبة بشرية حضارية ذكية هي ما تبقى من سلالات حضارات عريقة علمت البشرية الحياة والحضارة.
لا يمكن ان نتخيل ان الاخلاق العراقية قد انحدرت الى القيعان الآسنة ! ولا يمكن ان نتخيل ان قتل العراقيين بعضهم للآخر بات على الاسم والهوية والطائفة! ولا يمكن ان نتخيل ان الحقد الطائفي المكبوت يصنع كل هذه البشاعات! ولا يمكن ان نتصور ان هذه المرحلة ستكون مرحلة انهيار بدل ان تكون مرحلة بناء! انني اعتقد بأن الامور لا يمكن اصلاحها بالأمنيات والشعارات والثرثرة على الفضائيات ومشروعات مصالحة وحوار ولقاءات نفاق ما لم يتم تغيير النهج السياسي بوضعه الحالي كله وان يتخلى من ليس له قدرة على حكم البلاد الى اناس كفوئين وان يبتعد كل العراقيين عن المناطحة الطائفية اننا بحاجة اليوم الى ثورة سياسية شاملة تعيد العملية السياسية الى وجهها المدني والحقيقي والديمقراطي من دون أية اجندة طائفية او محاصصات اجتماعية وثقوا ان العراق سينعم بالاستقرار والهدوء وسيتفق اهله على مبادئهم السياسية الوطنية بمعزل عن واقع الانقسامات الدينية والطائفية فهل ستتحقق امنياتنا الوطنية ؟ انني اشك في ذلك!.